07 يونيو، 2018

السلام السماوي

ان تسير في طريق وانت تعرف انك لن تسير فيه مرة أخرى وليس هذا بسبب انك سترحل بعيدا ولن تأتيه مرة اخرى كما يحدث كثيراً ولكن لأن الطريق هو هذه المرة من سيرحل.. سيرحل آخذا معه البيوت والجدران والوجوه وتلك الرائحة التي كانت تتسلل إلى قلبك فتعبق روحك كلما كنت تسير فيه فتشعر كأنك في إحدى حارات نجيب محفوظ.. ستستيقظ يوما وتستعد لتسير في طريقك المعتاد لتفاجىء بأنه قد صار ركاما.. البيوت والمحلات صارت سيلا من الحجارة انسكب على الأرض فتجمد سدودا لا يمكن المرور منها ورائحة الحريق حلت في انفك محل عبق الماضي.
لم أكن أعرف ذلك الطريق من فترة طويلة رغم أنه ملاصق لمكان عملي اكتشفته فقط أيام الثورة عندما كانت كل الطرق الرئيسية حول مبنى التلفزيون مغلقة فدلنا البعض على ذلك الطريق الجانبي حتى نصل للاسعاف. أتذكر  اول مرة أسير فيه والحيرة والخوف لا تخفى من ملامحي فوجدت وجها عجوزا يطمانني بطيبته ويشير لي كيف أسير في الطريق الطويل المتعرج حتى أصل لوجهتي ويختم كلماته بابتسامة تنسيني خوفي
أتذكر انبهاري بالبيوت القديمة التي حملتني في رحلة إلى سنين طويلة مضت
عندما كنت في الفترة الأخيرة أسير فيه وأرى  اثاث بعض البيوت محملا على عربات نقل صغيرة  والتراب المتصاعد من البيوت التي بدأوا بالفعل في هدمها كان قلبي ينقبض كأني أقف عند فراش مريض يحتضر. وعندما سرت فيه يوما فوجدت نهايته يصعب تخطيها بسبب الهدم وأعمال حفر المترو أدركت انها آخر مرة. ابتعدت وعدت أسير في الطريق الرئيسي وانا مثل من ينتظر خبر رحيل عزيز لديه ميئوس من حالته.
عندما انظر الآن إلى الركام أحاول أن استعيد صورة الطريق والبيوت والوجوه كما رأيتها اول مرة وأحاول أن احتفظ بها كما احتفظ بصور بيوت عديدة عشت فيها ورحلت  للأبد فهي الطريقة الوحيدة التي وجدتها حتى تظل تلك البيوت تعيش.


رأيت وجوههم منذ زمن بعيد كانت وسائل الإعلام فيه تتناقل صور نادرة لهم وظلت صورتهم محفورة في ذهني وهم يجلسون في ميدان السلام السماوي في الصين يتغنون بالحرية وتعلو ملامحهم ذلك الشيء الذي جذبني بشدة وفهمت بعدها بسنوات انه الأمل وكنت أتساءل هل يمكن أن نجد مثلهم في بلادنا
والآن مرت الذكرى التاسعة والعشرون على اجتياح الدبابات للميدان وقتل عدد منهم لم يعلن عنه حتى الآن ويقدره البعض بالآلاف لكنني لم أعد أتساءل. .


صورة عملاقة تتوسط لوحة الإعلانات الكبيرة في ميدان عبد المنعم رياض لا يمكن إلا أن تخطف الأبصار باللون الأحمر الشائع فيها يظهر فيها ما يبدو لي أنه فريق كرة القدم الذي سيلعب في كأس العالم. وجوه شابة يعلوها الأمل. انظر لها مليا ولا أستطيع أن امنع نفسي من تذكر وجوه أخرى شابة ردم التراب آخر ملامح الأمل فيها.. وجوه لن تحملها صورة مثل هذه يوما ما في هذا البلد. لعلها وجدت الآن السلام في السماء.
وعندما تقف وتنظر للإعلان العملاق من ناحية الميدان لن ترى الأرض التي يخفيها وراءه، والتي صارت خراباً.

ليست هناك تعليقات: