نقابل في حياتنا وجوها تمر علينا مثل فراشة تخطف بسحر ألوانها أبصارنا ثم سرعان ما تتلاشى وسط دخان الحياة.
في يوم لا أنساه خطفتني امي من أيام تندر فيها البهجة وحملتني إلى عالم سحري. التحمت يدي بيدها وانا أدخل معها بوابة الاحلام، لتنبهر عيني بما لم أكن احلم بوجوده. كنز كبير من الكتب لم ترى عيني الصغيرة مثله من قبل. أظن أنني حينها كنت دون السادسة من عمري، وكان معرض الكتاب لا يزال يقام في المكان الذي بنيت فيه دار الاوبرا الحالية، وأذكر أنه كان يسمى أيضا أرض المعارض. أتذكر انبهاري الشديد وأنا أرى كل هذا الكم من الكتب التي كانت رؤيتها في حد ذاتها تمثل لي مصدراً للسعادة. أذكر أنني في ذلك اليوم اشتريت قصة "بيتر بان والكنز" وكنت في شدة السعادة وانا أحتضنها عند رحيلنا. كم من مرة ذهبت بعد ذلك للمعرض، وكم من كتب اشتريت، ولكن يظل لهذه المرة الأولى مذاقها الخاص الذي مازال يذوب في فمي حتى اليوم، يخفف من مرارات تتوالى دون أن تمنحني هدنة. كنت دوما أذهب بصحبة امي حتى اشتد عليها المرض. ظللت فترة بعد رحيلها لا استطيع الذهاب، وواجهت صعوبة بعد ذلك، حتى لا تسقط دموعي وانا أسير هناك لأول مرة وحدي. صرت الآن عندما اذهب أتذكر ذلك الوجه الذي أضاء لي طريقا بنوره وصحبني اول مرة إلى عالم الاحلام السحري، فيكون اول ما أفعله بمجرد دخولي لمعرض الكتاب أن أدعو لأمي بالرحمة.
**********
سألني كيف يعرف السعر، بعد أن رآني أحمل كتابين من نفس سلسلة الكتاب الذي يحمله. أخبرته أن السعر على الغلاف من الخلف، قلب الكتاب، لكنه كان يرى الأرقام بصعوبة رغم نظارته السميكة، فقرأتها له. لكنني استدركت بسرعة بعد أن لمحت مكتوبا على لافتة تعلو الكتب أن هناك خصم 50%، فأبدى بعض الارتياح. تقدمت قليلا والتفت ورائي فوجدته عاد ليختار كتبا أخرى. كان يسير بصعوبة، ينبئ عنها صوت لهاثه الذي كان يرتفع كلما تحرك قليلا. كان يرتدي قلنسوة كبيرة لكنها لم تكن تخفي شعره الأبيض الذي بدا غزيرا رغم سنه. لا أعرف لماذا تمنيت أن يطول بيننا الحوار، لعلها الطيبة التي أحسست بها تتدفق من عينيه. لا أنكر أنني كنت أرمقه ببعض الحسد وتمنيت أن أظل قادرة على الذهاب لمعرض الكتاب لو عشت وبلغت نفس عمره.
************************
جذبتني يد في الزحام جذبة خفيفة، صاحبها نداء بدا خافتا وسط الضجيج. عاودت جذبي عندما لم أجيب. التفت فوجدتهما ورائي. طفلتان صغيرتان، كانت اكبرهما تبدو في التاسعة من عمرها، ترتدي حجابا وردي اللون، بينما الثانية بدت في السادسة من عمرها، وكان وجهها مرسوماً عليه بالألوان ليبدو مثل وجه قطة. بدأت اكبرهما الحديث، تلعثمت قليلا بكلمات بدا أنها قد استغرقت وقتاً طويلاً في حفظها. كانت تلقي علي دعاية لشيء ما لم افهم كثيرا كنهه، لكنها أخذت تضحك فيما بدا ردا على ضحكاتي التي أطلقتها فرحتي برؤيتهما. بدأت الصغيرة هي أيضاً تضحك، لكن الكبيرة نظرت في اتجاه ما، فعاودت الجدية، وبدأت من جديد تلقي دعايتها، اعطتني في النهاية بعض الأوراق وطلبت مني أن أزور موقعهم، فوعدتها بذلك، فشكرتني هي والصغيرة وانطلقتا تجريان تصحبهما ضحكاتهما. نظرت لهما وهما تبتعدان، كنت أتمنى لو أجري معهما، وادعوهما للعب معي، لكنني استدرت في بطء ومضيت في طريقي.