صباح رمضاني عادي..أسير في الممر المؤدي
للسكرتارية لأوقع في دفتر الامضاء..أكاد افتح عيني,
فلم انم جيداً. جافاني النوم تماما بعد السحور
وخشيت أن نمت أن يفتني موعد العمل.
لكن في الممر شعرت بحركة غريبة, اضطرتني أن
افتح عيني على اتساعها, فتلاشى النعاس منها تماما ..
البعض يجري مسرعا إلى حجرة المدير, والبعض الآخر
يخرج منها مسرعاً أيضاً. عندما وصلت لحجرة
السكرتارية, إزدادت حيرتي, فالوجوم يغطي الوجوه,
والبعض انتحى جانباً ليبكي. تسائلت عن السبب,
فجاءتني الاجابة الحزينة..لقد مات أحد موظفي
السكرتارية. كنت اعرفه, كان الخبر محزناً لكنه
لم يكن مفاجأً, فقد اشتد به المرض كثيراً في الفترة
الأخيرة, حتى إنه كان يسير بصعوبة شديدة.
أول ما تبادر إلى ذهني أطفاله الصغار الذين تركهم
في الحياة بلا عائل. تذكرت أن له أبنة صغيرة
مازالت في المرحلة الابتدائية, اعرفها لانها من نفس
عمر ابن اختي, كنا قد تبادلنا الحديث يوما عنهما
وعما يعانيه هؤلاء الصغار من تغير مستمر للمناهج
وصعوبتها الشديدة بالمقارنة بأعمارهم.
لكنني عندما فكرت قليلا, تذكرت أيضاً إنها تماما في
مثل عمري أنا عندما رحل أبي, وياللمصادفة العجيبة,
لقد مات أبي أيضا مثله في شهر رمضان.
لا أعرف مالذي جعل تلك الكلمات تفلت من فمي,
ذكرتها في تلقائية دون أن اتنبأ بوقعها. فجأة شعرت
بتوقف الكلام تماما في الحجرة, ساد صمت ثقيل
ورأيت العيون كلها تتجه نحوي..تحدق في بشدة.
تعثرت الكلمات في فمي, وفوجئت بالدموع تقفز إلى
عيني, وشعرت كأن قواي ستنهار, فحاولت التماسك
واسرعت بالخروج ..فرارا من نظرات شفقة لا اطيقها.
سرت في الممروالذكريات تتلاحق على ذهني بتفاصيلها
المؤلمة, التي لم تستطع كل هذه السنوات أن تمحو منها
أي شيء. مازال كل شيء حيا , حاضرا في ذهني
كأنه كان بالأمس, والاصعب ان الألم مازال هو نفسه,
لم يتضاءل أمام مرور السنوات كما يمنوننا دائما بأن
الألم يبدأ كبيرا ويقل مع الأيام, فلماذا لم يقل ألمي.
بدأت دموعي تتساقط رغما عني, فمسحتها سريعا,
قبل أن ادخل المكتب, وهذه الطفلة الصغيرة التي
اصابها جرح مثلي لا تغيب عن بالي. تمنيت أن تكون
أوفر حظاً مني, أن تكون أشد تماسكاً وأكثر صلابة
في مواجهة الصعوبات التي ستلاقيها.
اعترف انني ضعفت أمام بعض المشكلات وعرف
الوهن طريقه إلي في لحظات كثيرة .. ورفعت كثيراً
من الرايات البيضاء ..لكنها قد تكون اشد قوة مني..
حقا ليس المهم كم تواجه من صعوبات
المهم كيف نواجه هذه الصعوبات..
دخلت المكتب..وجدت الجريدة ملقاه على أحد المقاعد,
تناولتها لعلي اطالع فيها ما يخفف قليلا مما أنا فيه..
الجريدة مليئة عن آخرها بأخبار الفيضانات والكوارث
الطبيعية والحروب..آلاف الضحايا في كل مكان..
في باكستان..في الهند..في الصين..في ..
مليون أرملة في العراق.. أربعة ملايين يتيم عراقي..
عندئذ تضاءلت صورتي .. وصورة تلك الطفلة,
وأنا انخرط في مطالعة صور اليتامى والأرامل
وقراءة تفاصيل مآسيهم
في كل مكان في العالم..
هناك 4 تعليقات:
انه تطبيق عملي للمثل الشعبي الذي يقول " اللي يشوف بلوى غيره تهون عليه بلوته"
الاحساس الذي وصفته اعرفه تمام المعرفة انا ايضا فقدت والدي وعمري 13 سنة وارى صورتي في كل يتيم جديد وأدعوا الله ان يعينه على ما ابتلاه به
انت انطلقت من الخاص للعام وجعلت مأساة كانت تبدو في البداية كبيرة جدا ومحورية تتضاءل امام حجم المأسي الموجودة في هذا العالم
دمت بكل ود عزيزتي
عزيزتي خواطر شابة
بالفعل حجم المأسي التي نطلع عليها كل يوم في الاخبار تجعلنا نعيد النظر في حجم مصائبنا الشخصية
اعتقد ان الانسان يجب ان يشعر اكثر بمن حوله ويكف عن النظر لمصيبته انها نهاية العالم والا لن يخرج منها ابدا
رحم الله والدك ووالدي واموات المسلمين جميعا وادخلهم فسيح جناته والهمنا الصبر
اسعدتني كثيرا زيارتك ودمتي في خير
السلام عليكم
هو حقيقة الإنسان تهون عليه مصائبه إن أدرك أن مصائب الغير أكبر، وقد يعرف أنه في نعمة يحسد عليها.
اليتم قد يكون نوعا من المعانات ولكن لا ننسى أن الذي أبتلي به يشترك مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان يتيم الأب والأم، ولكن رغم ذلك اصطفاه الله تعالى نبيا.
رحم الله والدك وجميع موتى المسلمين.
عزيزي أبو حسام الدين
اشد الناس ابتلاء في الدنيا هم فعلا الانبياء واشدهم احتمالا وصبرا ايضا واين نحن منهم على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه
شكرا لك واسعدتني كثيرا زيارتك
إرسال تعليق