10 مارس، 2009

عطر الأحباب

كيف يمكن لخبر ما أن يحدث تأثيرا في نفسك مختلفا تماما عما يحدثه في الآخرين..
كيف يمكن لخبر ما أن يدفعك للتفكير في أشياء لا يمكن أن تخطر على بال
أحد ممن استمع له أو شاهده..
الكل في إتجاه واحد مشدودين للحدث نفسه.. يفكرون في تداعيات الموقف
ويحللون ما حدث ويتناقشون في النتائج..
وأنت في اتجاه آخر تماما..
كأن الخبر تحول إلى بساط سحري يحملك إلى عوالم أخرى..
عوالم أسطورية..يتداخل فيها الحلم والحنين.. الألم والحسرة..
الشوق والأمل..
أحلام لا تستطيع أن ترويها لأحد..
أشواق لاتتمكن من التعبير عنها..
وأمال لا يمكنك تحقيقها..


لم يكن يتوجب علي الذهاب في ذلك اليوم إلى العمل,لكن زميلة طلبت مني الحضور بدلا منها..
وأنا في العادة لا أحب العمل في شفت الليل..لكني وافقت في النهاية نظرا لظروفها الصحية..

لم أكن أعرف ما ينتظرني..كنت أمني نفسي بنشرة هادئة نوعا ما..
وقد يكون هذا التعبير غريبا..ولكن ذلك لمن هو غير معتاد على الأخبار أي لمن يكتفي برؤية النشرة من حين لآخر بنصف أذن..أي لمجرد المتابعة لما يحدث في الدنيا..أو ليجد مادة للحديث إن تعذر ذلك..
فسيتعجب بالطبع من تعبير "نشرة هادئة"..كيف والنشرات م المستحيل أن تخلو هذه الأيام من الأخبار المروعة..أخبار الحروب والقتلى..
لكن في خقيقة الأمر -وعذرا لقولي هذا- لقد اعتدت هذه الأخبار وصارت بالنسبة لي أمراً عادياً..
أما النشرة الهادئة نوعا ما فأعني بها تلك التي تحمل أخبارا متفرقة..خبر من هنا وخبر من هناك..
تبدأ بالتصريحات المعتادة خاصة عن السلام وتحقيق الأمنأو الدعوات إلى الألتزام بالمعاهدات إلى آخره..
ولا مانع من خبر تفجير هنا أو هناك (وعادة يكون في العراق أو أفغانستان أو باكستان)
وخبر عن الجوع والفقر والمرض المستشري في البلد الفلاني في أفريقيا(وضع هنا أي أسم بلد أفريقي يعجبك)
وخبر عن زيارة من المسئول الفلاني للبلد العلاني..والتي عادة تحمل أهداف أخرى غير المعلن عنها وهكذا..
أما النشرة غير الهادئة فهي عندما ينفجر الوضع بشدة في أحد أركان العالم..مثلما حدث أيام العدوان الاسرائيلي على غزة..
فتجد حينئذ الخبر الواحد صار عشرات من الأخبار..تنهال عليك من كل مكان وعليك تجميعها وحذف التفاصيل والتي عادة تكون كلها هامة.. الأمر الذي يتطلب منك مجهودا مضاعفا وتركيزا عاليا وإلماما شديدا بالموضوع..
وتجد الوقت يجري سريعا وكلما ظننت إنك قد أنتهيت من اعداد الخبر تجد أحداثا جديدة قد تمت ستضطرك إلى تغيير كل ما قمت به...ولا يكون هناك وقت للأخبار الأخرى..


وهذا ما حدث في ذلك اليوم..فبينما كنت أمني نفسي بنشرة والسلام..وجدت الأمر قد أنفجر في أحد الأماكن...
لكنه ليس كباقي الأماكن..إنه مكان مثير للذكريات ..لكنها الذكريات المفعمة بالألم والحسرة..
ألم الفراق وحسرة البعاد..
كان الخبر عن اصدار المحكمة الجنائية الدولية أمر باعتقال الرئيس السوداني عمر البشير لاتهامه بجرائم حرب في دارفور..كنت أجلس أمام الكمبيوتر لأقوم باعداد الخبر وقد تعالت من حولي أصوات زملائي في حجرة التحرير..البعض يتناقشون في الخبر والبعض يتحدثون عن الأخبارعموما والآخرون يثرثرون بكلام عادي..
وفجأة لم أعد أسمع أي من هذه الأصوات فقد تناهى إلى سمعي صوت آخر ينبعث من التلفاز..صوت ساحركان له وقع مدهش في نفسي..ولو عرفتم حقيقة صاحب الصوت لأندهشتم من وصفي هذا تمام الدهشة..
فما كان ذلك الصوت سوى لمراسل سوداني في أحد القنوات الفضائية.. وفي الحقيقة لم يكن صوته هو الذي اسرني فهولايزيد عن كونه صوتا عاديا ..ولكن لهجته هي التي كان لها أثر السحر في نفسي..تلك اللهجة المحببة كثيرا إلى نفسي التي اشتاق لسماعها دائما لما تحمله من رائحة عطرة.. رائحة تلك الأيام التي كنت اسمعها فيها دائما في كل مكان... أشتاق لسماعها لما تبعثه في من ذكريات جميلة لأيام الطفولة البعيدة.. وإن كانت أيضا تعيد لي الشعور بالألم..ألم البعاد.. وألم العجز عن العودة..
وعندما ألتفت نحو مصدر الصوت انخلع قلبي من الصورة التي كان لها أثر أشد في نفسي..صورة تلك الوجوه السمراء المحببة إلى قلبي..تلك الوجوه التي كانت تحيط بي يوما ما..في المدرسة ..في الشارع..وفي البيت أيضا.. تلك الوجوه الجميلة ورائحتها العطرة التي تعيد الزمن إلى الوراء وتمسح كل الألم وتعيد كل الأحباب الذين رحلوا.. تعيدني طفلة من جديد وتعيد البراءة إلى قلبي والصفاء إلى نفسي..ذلك العطر الذي أتلمسه دائما ويدفعني كلما تصادف ورأيت أحد منهم ألا يحيد نظري عنهم.. أنظر إليهم كالمسحورة لعل النظرة تخفف بعضا من ألمي..
وأحاول الأقتراب منهم لعل في القرب حتى دون كلام بعض السلوى لقلبي..أتلمس فيهم عطر الأحباب الذين رحلوا ولن يعودوا أبداً..عطر الذكريات الجميلة..
وتنطلق الأحلام..

يامن يعيدني إلى هناك يوما واحدا..ساعة واحدة..
لأرى تلك الأماكن التي دفأتني جدرانها وتحمل لي ذكريات كثيرة..
لم يكن كلها جميلا حقا ولكن حتى الذكريات المرة لمرارتها طعما جميلا في حلقي ولعل ذلك بمقارنتها بالواقع...

وهكذا وبغض النظر عن الخبر نفسه ومدى الأختلاف معه..وبغض النظر عن حدوث هذا الأمر مباشرة بعد المذابح والجرائم التي ارتكبها اليهود في غزة دون أن يتحرك أحد من حماة حقوق الانسان... وبغض النظر عن تزامنه مع خبر انسحاب الوفود الأوربية مثل إيطاليا من مؤتمر التفرقة العنصرية لأنه ذكر فيه بعض الكلمات التي لم تعجبهم عن اسرائيل مؤكدين أن "عدم المساس باسرائيل" مبدأ لايمكن الحياد عنه مهما حدث,
وبغض النظر عن سياسة الكيل بمكيالين الصارخة


إلا إني في النهاية أتعجب من ذلك التأثير الغريب الذي يمكن أن يحدثه خبر ما..تأثير يبقى طويلا ويصعب شرحه..

ليست هناك تعليقات: