24 فبراير، 2009

غزة 2008

رأيتك أمس في الميناء

مسافرة بلا أهل .. بلا زاد

ركضت إليك كالأيتام، أسأل حكمة الأجداد :

لماذا تسحب البيّارة الخضراء

إلى سجن، إلى منفى، إلى ميناء



رأيتك في جبال الشوك

راعية بلا أغنام

مطاردة، و في الأطلال..

و كنت حديقتي، و أنا غريب الدّار

أدقّ الباب يا قلبي على قلبي..

يقوم الباب و الشبّاك و الإسمنت و الأحجار !



رأيتك عند باب الكهف..عند الدار

معلّقة على حبل الغسيل ثياب أيتامك

رأيتك في المواقد.. في الشوارع.. في الزرائب..

في دم الشمس رأيتك في أغاني اليتم و البؤس !

رأيتك ملء ملح البحر و الرمل

و كنت جميلة كالأرض.. كالأطفال.. كالفلّ




عاشق من فلسطين ..محمود درويش





على مدار كل سنوات عملي غير القصيرة ورغم كل الأحداث والمآسي التي كان علي تحريرها ونقلها لم يمر علي شيء بمثل هذه القسوة والبشاعة..

ثلاثة أسابيع..22 يوما من العنف العبثي..من الظلم المكثف..

وضمير العالم في حجرة الانعاش..



وفي وسط كل هذا تطلع علينا احدى الطبيبات النفسيات لتعلن رفضها التام لعرض صور الضحايا والدمار الذي ألحقه اليهود بغزة وذلك حتى لا تؤثر تلك الصور الوحشية على نفسية المشاهد وتصيبه بالاكتئاب..

المشاهد الذي يجلس في مقعده الوثير وقد تغطى جيدا مخافة الشعور بالبرد ومن الجائز أن تكون بجانبه أيضا مدفأة وأمامه مالذ وطاب من الطعام والشراب..وسينهض بعد ذلك لينام في فراشه الدافئ الآمن..

ولا أعني أن جميع المشاهدين بهذا الوضع ولكن الذين ليسوا على تلك الحالة لا أظن أنهم ينتظرون تلك الصور ليصابوا بالاكتئاب..



لقد أصابني الغيظ الشديد وأنا استمع لهذه الطبيبة التي لا يهمها سوى أن تحمي ذلك المشاهد من مجرد الشعور بمن في الصور بهؤلاء الضحايا الذين نرغب في ان نحرمهم حتى من مجرد التعاطف المعنوي وكأننا نشارك في عملية التعتيم الاعلامي التي يقوم بها اليهود ليغطوا على جرائمهم..

وتبرر الطبيبة ذلك بأن من سيشاهد صور الضحايا سيشعر فقط بالاحباط لانه سيجد نفسه عاجزاعن عمل شيء وهذا الكلام في حد ذاته هو ما يصيب بالاحباط...فقد يكون عرض هذه الصور في كل مكان وفي كل وقت هو في حد ذاته عمل له أهمية يمكن تقديمه لهؤلاء الضحايا ( إذا لم يصدق أحد ذلك فلينظر إلى حجم الدعاية اليهودية وحجم الاهتمام الذي توليه اسرائيل للدعاية لها واثارة شفقة العالم عليها)
وما يمكن عمله كثير أقله التبرعات للمصابين واسر الضحايا..




وتلك الطبيبة التي تشفق على من يرى تلك الصور مجرد رؤية عابرة من حين لآخر تشفق عليه من الاكتئاب, فماذا عن ذلك الذي يتوجب عليه المكوث يوميا لمدة أربع ساعات ليغوص في تلك الاخبار حتى الثمالة.. لا يراها فقط إنما يقرأها جيدا ويستوعبها و يحررها ويترجمها..



كانت اخبار الموت والدمار تتدفق في هذه الأيام وفي الساعة الواحدة تنهال عليك عشرات الأخبار, اخبار من قُتل ومن جرح وما تدمر ومن القى تصريحات نارية ومن شجب ومن استنكر ومن دافع عن هذا الطرف ومن دافع عن الطرف الآخر ومن شتم هذا ومن سب ذلك الى آخره ... كان علي في كل يوم أن أقوم بتجميع كل هذه الأخبار فأجد أمامي أكثر من خمس صفحات علي أن أقوم باعدادها لتكوين خبر واحد أو اثنين على الأكثر..وتصادف أن العمليات الوحشية بدأت في موسم امتحانات واجازات فكان علي القيام باغلب شفتاتي وحدي فلايوجد معي زملاء يمكنني أن القي بهذا الحمل عليهم أو حتى أن نتشارك فيه بدلا من أن أحمله وحدي..



لقد كنت أعود إلى المنزل بعد ذلك وأهرع الى الأخبار اتطلع إلى خبر النهاية نهاية هذه المأساة ولكن أيضا نهاية لعذاب شخصي عانيت منه كثيرا وكان شبح الكآبة يرتسم على تفاصيل حياتي كلها وليس فقط تلك الساعات التي أعد فيها الأخبار..



أشد ماكان يؤذيني أخبار الموت وأخبار الخسة والنذالة التي تميز طريقة الجيش الاسرائيلي في تصفية ضحاياه.. ففي أحد الأخبار طلب الجنود اليهود من عشرات المدنيين الفلسطينيين و الغالبية العظمى منهم طبعا من الاطفال والنساء طلبوا منهم الخروج من منازلهم و التجمع في مبنى واحد ليجنبوهم بذلك القصف كما يزعمون وبعد أن اطمأن إلى ذلك الفلسطينيون أو لم يطمأنوا فليس في أيديهم سوى ذلك , تجمعوا في المبنى فقام اليهود بالمنتظر منهم طبقا لتاريخهم الطويل من الخسة و قاموا بقصف المبنى منتشيين بقتل الاطفال والنساء...وغيرها من الأخبار المؤلمة والمثيرة للدهشة فهل يتصور أحد أن يتم قصف مبنى الأمم المتحدة و بان كي موون في زيارة للمنطقة "إيه البجاحة دي" وقصف الهلال الأحمر و المستشفى الخاص به ..وقصف المدرسة التابعة لوكالة الأنروا وقد تجمع بها عشرات الفلسطينيين المدنيين هربا من العدوان... وقصف قوافل الأنروا للمساعدات الانسانية والتي لم يكن للامم المتحدة رد فعل إزاؤها سوى وقف المساعدات والذي بالطبع لم ينتج عنه سوى زيادة معاناة المدنيين الفلسطينيين...




وحرقة الدم أيضا من وكالات الانباء العالمية التي تنشر الخبر لكنه مليء بالايحاءات الخفية التي لا ينتبه إليها غير المتخصص والتي تصب كلها في اطار واحد وهو تبرير الهجمات الوحشية للجيش الاسرائيلي..
و الصمت الغريب الذي ألجم ضمير العالم وجعله يسمح بهذه المجزرة البشعة واستمرارها لأكثر من ثلاثة أسابيع وهي مدة لم يسبق لها مثيل..ومن علق على الأمر وأعلن موقفه نقول ليته ما فعل..فموقفه المخزي لا يخرج عن مساندة ما يسمونه "حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها".. وهو حقاً ما لا أتمكن من فهمه..فما معنى الدفاع عن نفسها والدفاع عن نفسها ضد ماذا؟!.. ضد "بعض الصواريخ اللعبة" التي نفعها أكثر من ضررها ونفعها بالطبع لصالح اسرائيل كحجة للعدوان..
و"الدفاع عن نفسها" ضد من؟! ..ضد الأطفال والنساء الذين يمثلون أغلب ضحايا العدوان .. لقد أسفرت الهجمات الوحشية الاسرائيلية عن مقتل 1.330 فلسطيني بلغ عدد الأطفال منهم 437 والعجائز 123 وعدد الجرحى 5.450 والأطفال منهم 1.890...




أعرف ان معاناتي لا تصل في حجمها حتى إلى قدر ضئيل من معاناة الضحايا الذين لن أوفيهم حقهم أبدا...لكني حقا لا أريد لهذه الأيام أن تعود أو أن تتكرر ..وإن كنت أشك في ذلك مادامت الوجوه هي الوجوه والحال هي الحال...

ليست هناك تعليقات: